الذكاء الاصطناعي في قبضة الجريمة: "مزارع احتيال إلكتروني" تستعبد الشباب وتدرّ مليارات الدولارات
.webp)
في عمق جنوب شرق آسيا، تتكشّف ملامح أزمة جديدة تتشابك فيها الجريمة المنظمة مع التطور التكنولوجي، حيث تمارس عصابات دولية نشاطًا احتياليًا واسع النطاق تحت غطاء "الوظائف الرقمية"، وتستدرج آلاف الشباب من دول نامية إلى ما بات يُعرف بـ"مزارع الاحتيال الإلكتروني"، وهي مراكز عمليات احتيالية مغلقة ومؤمّنة بحراسة مشددة تُدار عبر أدوات الذكاء الاصطناعي.
ظاهرة تتسع رقعتها وتثير قلقًا عالميًا، خاصة مع ما كشفته تقارير صحفية واستقصائية عن حجم الأرباح الطائلة التي تجنيها هذه العصابات، والتي تجاوزت 40 مليار دولار سنويًا، فضلًا عن آثارها الكارثية على حياة الضحايا الذين وقعوا في الفخ.
وظائف وهمية تتحول إلى عبودية رقمية
تشير تحقيقات متعددة إلى أن المئات من الشباب من دول مثل إندونيسيا، الصين، إثيوبيا، والهند، يتم استدراجهم من خلال عروض عمل مغرية في مجالات مثل التسويق الرقمي، وخدمة العملاء، وتحسين محركات البحث، وذلك عبر إعلانات مزيفة تنشرها حسابات مشبوهة على منصات مثل "فيسبوك" و"تيليغرام".
يُخدع الضحايا بوظائف براتب مغرٍ ومزايا كبيرة، ليُفاجَأوا بعد سفرهم بأنهم وقعوا في فخ الاتجار بالبشر. حيث يُسحب منهم جواز السفر، وتُصادر هواتفهم، ويُحتجزون داخل مجمعات محمية بأسوار عالية وحراسة مشددة، ليمارسوا الاحتيال على ضحايا حول العالم تحت إشراف مباشر من مشغّلي هذه الشبكات.
تدريب سريع.. ثم الانخراط في الجريمة
يقول أنيس هداية، مفوض اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان في إندونيسيا، إن آلاف الإعلانات المضلّلة تنشر يوميًا مستهدفة فئة الشباب، خاصة ممن يحملون جوازات سفر سارية.
وأوضح أن المجندين يتلقّون تدريبًا مكثفًا لا يتعدى يومين، يُعرّفون فيه بأساسيات الاحتيال الإلكتروني وتقنيات الخداع، ثم يُدفعون مباشرة للعمل في "غرف عمليات" احتيالية تستخدم أدوات متقدمة مثل الذكاء الاصطناعي التوليدي، والتزييف العميق (Deepfake)، ونماذج اللغة الكبيرة لتضليل الضحايا في أنحاء العالم.
أمريكا تخسر المليارات.. والمصدر آسيا
وفقًا للجنة التجارة الفيدرالية الأمريكية، تكبّدت الولايات المتحدة خسائر فادحة في عام 2024 نتيجة عمليات احتيال إلكتروني، بلغت 12.5 مليار دولار، كانت غالبيتها من خلال خدع استثمارية تديرها هذه المزارع المنتشرة في دول مثل كمبوديا وميانمار ولاوس والفلبين.
وتفيد التقارير بأن هذه المراكز تعمل بشكل احترافي، حيث تُدار كنظام مؤسسي، يحتوي على أقسام للتواصل مع الضحايا، وتحليل البيانات، والتلاعب النفسي، وحتى فرق تقنية مسؤولة عن تطوير البرمجيات المستخدمة في الاحتيال.
قصص مرعبة من داخل "المزارع"
روى بعض الضحايا الذين نجحوا في الهروب من هذه المزارع تفاصيل مروّعة عن ظروف احتجازهم. أحدهم، شاب إندونيسي حاصل على شهادة في تكنولوجيا المعلومات، أوضح أنه خُدع بعرض عمل في مجال تحسين محركات البحث، ليُفاجَأ بنقله قسرًا إلى كمبوديا.
هناك، صودرت وثائقه الشخصية وأُجبر على العمل 15 ساعة يوميًا في مركز اتصال احتيالي، كان دوره فيه بناء علاقات عاطفية مزيفة عبر تطبيقات المواعدة، لجذب الضحايا – وغالبيتهم من دول غربية – إلى الاستثمار في منصات تداول وهمية، أو المراهنة في كازينوهات إلكترونية غير موجودة في الواقع.
وفي حالة أخرى، اختُطف شاب مؤثر على مواقع التواصل من مطار بانكوك بعد التقدم لوظيفة في شركة مزيفة تدعي الانتماء لمنصة "لازادا"، ثم نُقل إلى ميانمار حيث استُخدم صوته ووجهه عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي لخداع مستخدمين آخرين.
الذكاء الاصطناعي.. السلاح السري للمحتالين
ما يثير القلق أكثر هو اعتماد هذه المزارع على الذكاء الاصطناعي بشكل متزايد في تنفيذ جرائمها. تقنيات "التزييف العميق" باتت تُستخدم لتوليد مقاطع فيديو وصوت تبدو حقيقية تمامًا، ما يجعل من الصعب على الضحية التمييز بين المحتال والشخص الحقيقي.
تقرير أممي حديث أشار إلى أن استخدام أدوات التزييف العميق ارتفع بنسبة 600% على منصة "تيليغرام" فقط، حيث تُباع البرمجيات الخبيثة والخدمات الإجرامية بأسعار مغرية، وتُستخدم لاختراق الحسابات وتزوير الهويات.
ويؤكد جون فوجيك، من مكتب الأمم المتحدة في بانكوك، أن الذكاء الاصطناعي بات "عاملًا مضاعفًا" في هذه الجرائم، إذ يمكّن المحتالين من خداع الضحايا بسرعة ودقة وبتكلفة أقل.
منصات التواصل في قفص الاتهام
رغم تعهدات سابقة من شركتي "ميتا" المالكة لـ"فيسبوك" و"واتساب"، وكذلك "تيليغرام"، بالتصدي للمحتوى الاحتيالي، إلا أن الواقع يُظهر أن الجماعات الإجرامية ما تزال تنجح في استغلال الثغرات الأمنية والتحايل على الخوارزميات.
تقرير لصحيفة "وول ستريت جورنال" كشف أن "ميتا" تصنّف الإعلانات الاحتيالية المتعلقة بالوظائف كأولوية منخفضة في نظامها، ما يتيح استمرار الترويج لها لفترات طويلة دون تدخّل فوري.
الضحايا يعودون محطمين.. وبعضهم يبدأ من الصفر
الجانب الإنساني من هذه القضية لا يقل مأساوية. بعض الناجين الذين تمكّنوا من العودة إلى بلدانهم، يعانون من اضطرابات نفسية وصدمة نفسية طويلة الأمد، ويجدون صعوبة في العودة إلى حياتهم السابقة.
شاب كان يعمل مبرمجًا قبل أن يقع ضحية لمزرعة احتيال في لاوس، يعمل الآن في مزرعة نخيل بإندونيسيا ميكانيكيًا، ويقول:
"رغم كل ما مررت به، لا يزال لدي حلم بالعودة إلى مجالي... نحن كبشر لا نملك سوى أن نحلم".
جهود دولية محدودة وإجراءات متأخرة
ورغم تصاعد الأصوات المطالِبة بتحرك دولي لوقف هذه الممارسات، فإن الاستجابة لا تزال محدودة. معظم الدول المتضررة لم تنسق جهودها بشكل فعال، في ظل تعقيدات قانونية تتعلق بالحدود والسلطة القضائية العابرة للدول.
ويطالب نشطاء حقوق الإنسان بضرورة سن قوانين دولية أكثر صرامة لمكافحة الجرائم السيبرانية والاتجار بالبشر المرتبط بالتكنولوجيا، إلى جانب فرض ضغوط على الدول التي تحتضن هذه العصابات على أراضيها.
الذكاء الاصطناعي في قبضة العصابات.. من يوقفه؟
لقد تحوّلت التكنولوجيا التي كان يُفترض أن تكون أداة لتطوير المجتمعات، إلى سلاح مميت في يد العصابات الدولية. مزارع الاحتيال الإلكتروني في جنوب شرق آسيا ليست مجرد قضية احتيال عابرة، بل هي أزمة إنسانية واقتصادية وأمنية متكاملة، تُهدد بزعزعة الثقة في العالم الرقمي.
ويبقى التحدي الأكبر أمام المجتمع الدولي هو كيفية الموازنة بين تسريع الابتكار التكنولوجي، ومنع إساءة استخدامه في أعمال إجرامية عابرة للقارات. وفي ظل غياب التنسيق العالمي، فإن الشباب الفقراء الباحثين عن فرصة، سيظلون وقودًا لهذه الماكينة الإجرامية المتطورة.