لبنان بين الإصلاح ونزع السلاح: زيارة أميركية تفتح ملفات حساسة وتطرح مستقبلًا جديدًا للسيادة
.webp)
في خضم التوترات الإقليمية المتصاعدة والصراع الممتد منذ عقود مع إسرائيل، يجد لبنان نفسه أمام مفترق طرق حاسم يمسّ سيادته وأمنه واستقراره الداخلي. فقد مثّلت زيارة الوفد الأميركي برئاسة نائبة المبعوث الخاص إلى الشرق الأوسط مورغان أورتاغوس، واجتماع وفد مجموعة العمل الأميركية لدعم لبنان (ATFL) مع الرئيس اللبناني جوزيف عون، منعطفًا جديدًا في مساعي بيروت لإعادة ترتيب أولوياتها الأمنية والسياسية، لا سيما في ظل اشتداد الضغط الدولي والإقليمي على ملف نزع سلاح حزب الله وتطبيق القرار الدولي 1701.
لقاء حاسم في قصر بعبدا
استقبل الرئيس اللبناني وفدًا من مجموعة العمل الأميركية لدعم لبنان، حيث شدد خلال اللقاء على جملة من النقاط الاستراتيجية التي تعكس التوجه الرسمي للحكومة اللبنانية تجاه القضايا الأساسية العالقة، وفي مقدمتها الاحتلال الإسرائيلي المستمر لبعض النقاط الحدودية الحساسة، وسلاح حزب الله، واستراتيجية الأمن والدفاع الوطني.
وقال الرئيس عون إن بقاء إسرائيل في النقاط الخمس التي احتلتها جنوب لبنان بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في نوفمبر 2024 من شأنه أن يزيد الأمور تعقيدًا، ويُعقّد أي جهود للتهدئة أو التفاوض، خصوصًا في ظل خروقات متكررة للقرار 1701 من قبل القوات الإسرائيلية.
"الإصلاح ونزع السلاح مطلبان لبنانيان"
في رسالة مباشرة إلى المجتمع الدولي، أكد الرئيس اللبناني أن مسألتي الإصلاح وسحب السلاح ليستا مطالب خارجية فُرضت على لبنان، بل هما مطلبان لبنانيان نابعان من إرادة وطنية تهدف إلى بسط سيادة الدولة وحصر السلاح بيد المؤسسات الرسمية، في مقدمتها الجيش اللبناني.
وأشار الرئيس إلى أن لبنان لا يعترف بأي سلاح أو مجموعة مسلحة خارج إطار الدولة، معتبرًا أن القضايا الوطنية الكبرى يجب أن تُحلّ بالحوار والتواصل، بعيدًا عن التصعيد والمواجهات.
وكشف أن الحكومة اللبنانية تعمل على صياغة استراتيجية شاملة للأمن الوطني، ستنبثق عنها استراتيجية دفاع وطني تُحدد آليات التعامل مع التهديدات الداخلية والخارجية، وتضع الإطار العام لتنظيم العلاقة بين الدولة والمكونات السياسية المختلفة.
الوفد الأميركي: رسائل واضحة وشروط للمساعدات
من جانبه، أكد رئيس وفد مجموعة العمل الأميركية إدوارد غابرييل أن بلاده متمسكة بدعم لبنان ومؤسساته، وفي مقدمتها الجيش اللبناني، لكنه شدد في الوقت ذاته على ضرورة تنفيذ مجموعة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والأمنية كشرط للحصول على الدعم المالي والمساعدات الدولية.
وقال غابرييل إن واشنطن تنتظر خطوات عملية وسريعة من الحكومة اللبنانية، خصوصًا في ما يتعلق بنزع سلاح حزب الله، وتطبيق كامل لبنود وقف إطلاق النار. وأضاف أن "كلما تسارعت الإصلاحات ونُفذت الالتزامات، كلما تمكنا من تقديم الدعم في وقت أقرب".
كما أشار إلى أن العمل الجيد الذي قام به الجيش اللبناني، والجهود التي يبذلها الرئيس عون، لاقت إشادة كبيرة في واشنطن، مما يعزز فرص التعاون بين البلدين على أسس واضحة وصريحة.
"سلاح حزب الله" في مرمى التصريحات الأميركية
التصريحات التي أدلت بها مورغان أورتاغوس خلال زيارتها إلى بيروت حملت نبرة أكثر حدة، حيث قالت في مقابلة مع قناة "LBCI" اللبنانية إن واشنطن تضع نزع سلاح حزب الله في مقدمة أولوياتها في لبنان، وتعتبره مدخلًا ضروريًا لتحقيق الاستقرار في البلاد.
وأكدت أورتاغوس أن على الحكومة اللبنانية، ومعها الشعب، أن يختاروا بين طريقين: إما التعاون مع المجتمع الدولي لتحقيق نزع السلاح وإنهاء الفساد، أو البقاء في حالة من التباطؤ والمراوحة، وهو ما سيؤدي إلى انقطاع أي شراكة مستقبلية مع الولايات المتحدة.
وأضافت أن "تحرر لبنان من النفوذ الأجنبي والإرهاب والخوف لن يتحقق إلا عبر تمكين الجيش اللبناني ونزع سلاح جميع الميليشيات"، على حد قولها.
كما شددت على أن واشنطن ستواصل الضغط من أجل تطبيق القرار 1701 بشكل كامل، ووقف الأعمال العدائية مع إسرائيل، في إطار تفاهمات طويلة الأمد تحفظ الاستقرار في الجنوب.
خروقات إسرائيلية مستمرة
رغم اتفاق وقف إطلاق النار الموقّع في 27 نوفمبر 2024 بوساطة أميركية فرنسية، تواصل إسرائيل شن غارات جوية على مواقع جنوب لبنان، تقول إنها تستهدف مواقع لحزب الله. وفي المقابل، يرفض الجيش الإسرائيلي الانسحاب من خمس نقاط استراتيجية على الحدود الجنوبية، ما يعرقل تنفيذ الاتفاق ويزيد التوتر على الأرض.
هذا التواجد العسكري الإسرائيلي في تلك النقاط، والذي اعتبره الرئيس عون "غير قانوني ويُعقّد الوضع الميداني"، يفتح المجال أمام احتمالات التصعيد مجددًا، خصوصًا في حال قررت تل أبيب تثبيت وجودها العسكري هناك بشكل دائم.
أهمية القرار 1701 ودور "اليونيفيل"
أشاد الرئيس اللبناني بالدور الذي تلعبه قوة "اليونيفيل" في جنوب البلاد، مؤكدًا التزام بلاده الكامل بالقرار الأممي رقم 1701، الذي يهدف إلى تثبيت الاستقرار على الحدود بين لبنان وإسرائيل.
وأكد أن أي خرق لهذا القرار، سواء من الجانب الإسرائيلي أو من أي طرف آخر، يجب أن يُدان ويتم التعامل معه في إطار المنظومة الدولية، بعيدًا عن التصعيد غير المحسوب.
المستقبل السياسي والأمني للبنان
تمثل هذه الزيارة الأميركية المكثفة إلى لبنان إشارة إلى عودة الملف اللبناني إلى الواجهة الدولية، خصوصًا في ظل تصاعد النفوذ الإيراني في المنطقة، واستمرار حزب الله في امتلاك ترسانة عسكرية تُقلق الغرب وتثير جدلًا داخليًا حول السيادة.
الضغوط الدولية المتزايدة على بيروت، والتي تم التعبير عنها بوضوح في تصريحات الوفد الأميركي، تهدف إلى دفع لبنان نحو خيار الدولة المدنية، والمؤسساتية، التي تُدار وفقًا للقانون والدستور، وليس عبر توافقات فصائلية أو توازنات سلاح.
ومع ذلك، فإن الطريق لا يزال طويلًا، خصوصًا أن حزب الله يرفض التخلي عن سلاحه، ويعتبره جزءًا من منظومة "المقاومة" التي تحمي لبنان من التهديدات الإسرائيلية، كما أن الداخل اللبناني لا يزال منقسمًا حول هذه المسألة الحساسة، التي تتداخل فيها الاعتبارات السياسية والأمنية والطائفية.
لبنان اليوم يقف أمام مفترق طرق حقيقي: إما الانخراط الجدي في عملية إصلاح شاملة تبدأ بسحب السلاح غير الشرعي، وتفعيل مؤسسات الدولة، والانفتاح على الدعم الدولي؛ أو البقاء في حالة الجمود والانهيار، مع ما يحمله ذلك من تهديدات على المستوى الاقتصادي والسياسي والأمني.
الرسالة الأميركية كانت واضحة: "لا دعم من دون إصلاح، ولا استقرار من دون سيادة الدولة على كامل أراضيها"، بينما يبقى على القيادة اللبنانية أن تحسم خياراتها سريعًا، لأن التأخير لم يعد خيارًا.